November 9, 2008

العالم الآخر والفراشات



ألاحظ اليوم بكثير من الدهشة البريئة ذلك الكائن الذي يطير بين الزهور الصفراء والزرقاء الكبيرة، لاأعلم على وجه التحديد اسما له، لكنه كان شبيها بقمر ينتمي لعالم آخر، حجمه دقيق للغاية، يمتلئ ظهره بدوائر حمراء وبيضاء وسوداء، ألوانه الثلاثة المتناقضة تحجب كينونته الحقيقية عني، تحجب عني مدى علاقته بهذه الزهور الملونة، يطير في رقة متناهية، بينما أحاول طاقتي أن ألمح أجنحته الشفافة الجانبية، التي كانت ترتفع وتنخفض في سرعة لايمكنني ملاحقتها، كنت ألهث سريعا من محاولة حساب عدد حركات أجنحته لكني كنت أفشل سريعا أيضا.
أحسبه ملاكا جديدا ينضم لطابور الملائكة التي امتلأت بها مخيلتي الحمقاء ذات السرعة العالية في معالجة أفكار مستحيلة، لا تدعني هذه الأفكار أهنأ أبدا حتى بشروري الصغيرة، مثل الركض وراء الصراصير البنية وقلبها على ظهرها لبرهة ورؤيتي لها وهي تفرفر وتضرب بأقدامها الكثيرة في الهواء، هل كانت تختلق هذه الحركة التي كنت أراها قريبة الشبه بحركة أخي الصغير النائم على ظهره يضرب بكفية وقدميه الصغيرتين للغاية الهواء أيضا، كان هناك شبها غريبا بينهما، رغم أنهما ينتميان لعالمين متناقضين، لكننى كنت أفترض أن هذه الصراصير هي أبناء عمومتنا ، وهذا الافتراض كان لايمكن أن أصل إليه لو كنت أفكر بطريقة عاقلة، لكن أقدام هذه الحشرة الكثيرة المتلئة بشعر من نفس اللون كانت تجعلني أضحك، كانت أقداما صغيرة للغاية وكثيرة أيضا للغاية، أما هذا الكائن الدائري الملون فكانت تلك هي المرة الأولى التي أراه فيها، تحمله الريح في هدوء فيدور على نفسه عدة دورات حتى يستقيم إلى الوجهة التي يريدها، وحين نفخت فيه ارتفع قليلا في الهواء، كان يرتفع ويهبط ويتمايل طبقا لاتجاه نفخاتي، كنت أحاول النفخ بقوة، وكنت أشعر بأنه سعيد باللعب معي، حتى اختفى فجأة، أدقق على سطوح الأزهار وبين أورا الشجر الكيفة لكنه كان قد اختفي، اختفى تماما.
حاولت التحديق بين جذور وسيقان الأزهار المتشابكة، لكنني كنت أجد الظلام دامسا للغاية هناك، بينما تنغرس يدي ذات الأصابع الصغيرة وتختفي تحت الأوحال، أوحال الطين المتراكمة بفعل أمطار الليلة السابقة، تغوص فيها تاركة خلفها فقاعات هوائية على سطح الماء، فقاعات صغيرة لاترى وفقاعات أكبر تحبس داخلها صور صغيرة لي تتناثر على سطح الماء الغليظ بفعل الرمال الطينية المختلطة به، كان الظلام كثيفا في المسافات المطمورة في الأسفل، لكني لم أتعب أو أتراجع، كانت بعض الزهرات الصغيرة الصفراء تسقط تحت قدمي وركبتي فتنسحق في الأوحال البريئة الساكنة، الساكنة تماما، التي لايسكنها سوى تلك الجذور التي تحاول الصعود لسطح الرؤية، كأنها كانت تريد أن ترى العالم هي الأخرى، وكانت قدمي الصغيرة حين أقف أجدها تشكل خطوطا ومنعرجات لاتنتهي، إلى أن عثرت على الكائن اللطيف واقفا هناك تحت تلك الزهرة البيضاء الوحيدة على بعد عدة مسافات قصيرة عني، كأنه اختار كوكبا آخر ليقف عليه، وكان بجانبه كائن آخر من نفس النوع، كأنهما اختارا معا هذا الكوكب الأبيض الصغير المنزوي بين الكواكب الصفراء والجذور ليقفا عليه، كانا ساكنين تماما، إلى الحد الذي شعرت معه بتوقف كل الأشياء عن الحركة، كأن الحياة كلها توقفت هناك، لتبوح لي بسر لم استطع أن أفهمه أبدا، صمت هائل ليس له حدود، فبدأت أتراجع سريعا وأنا أتخيل أنني أتسبب في كوارث لاحصر لها، كوارث كونية متداخلة بسبب ماتفعله قدماي وكفاي، وحين بدأت في التراجع كانت الجذور والسيقان تلتئم من جديد، تتراجع إلى ماكانت عليه هي الأخرى قبل مجيئي، وأخيرا انغلق العالم الذي انفتح أمام عيني، كأنه لم يكن موجودا من قبل.