August 12, 2007

"بورخيس" صانع الخيال والمتاهات واليقين




يعرف الكثير من الكتاب بورخيس كواحد من أبرز صانعي الخيال والمتاهات في العالم، هذا الذي رأى بعقله مالم يراه الحشد الأعظم من الأدباء وفي النهاية مات ضريرا.
نظر إليه العديد من النقاد والأدباء في عالمنا الذي يتداعى يوما بعد آخر من هذه الناحية، لكن الذي يعنيني هنا هو السؤال الذي طرحه بورخيس على نفسه، وهو كيف يمكن كتابة الأدب في الأرجنتين؟ إن تجربته الروائية – وهو يكتب الشعر والقصة القصيرة – تقترب في كثير من ملامحها من تجربة أديبنا العالمي نجيب محفوظ، بمعنى أنه من المؤكد أن محفوظ طرح على نفسه مثل هذا السؤال، كيف يمكن كتابة الأدب في مصر؟ ربما يتفق الكاتبان في جزء من الإجابة لكنني لاأعتقد أن أحدا من كتابنا الروائيين طرح على نفسه مثل هذا السؤال، فنحن اللااستراتيجيون لانملك هذه الموهبة، ولا إلى هذا الحد من التساؤل، ولابمثل هذا الوضوح في الإجابة، ولا بمثل هذه القدرة على تخطي الحدود!.
لنأتي أولا لمشكلة الخيال في الرواية المصرية، ماهي درجة الاحتفاء بالخيال والخيال الجامح أدعي في الرواية المصرية، لاأجد مثل هذا الخيال لدى أغلب الأدباء تقريبا، ولأدري حقيقة السبب وراء ضمور نزعة الخيال الجامح والمتاهات في الأعمال الأدبية المصرية والعربية بشكل عام، ربما تكون متوافرة في بعض الأعمال الشعرية، لكنها غير موجودة على الإطلاق في الكثير من الأعمال الأدبية.
ربما كان لبعض أعمال كتاب الستينيات نزوع نحو إظهار الخيال خاصة في كتابات ابراهيم عبد المجيد، لكنه وظفة كإطار للعمل، وليس مضمونا في حد ذاته، وصنع الله إبراهيم في (اللجنة)، ولم يلتفت بعد ذلك كثيرا فيما بعد في أعماله إلى تطوير هذه الإمكانية، وسأستبعد هنا أعمال اعتمدت الخيال العلمي كالسيد من حقل السبانخ لصبري موسى، وإن كانت ذات وظيفة اجتماعية، ويلتبس أبعادا واقعية.
المشكلة الأكبر في رأيي أن كتاب أمريكا الجنوبية مثل بورخيس ومن بعده ماركيز وكويلهو استفادوا جميعا من لعبة الخيال التي أطلقت سراحها (ألف ليلة وليلة)، فيما لم نستفد نحن منها كثيرا، بل إن ترشيحهم أو حصولهم على جائزة نوبل كانت هذه واحدة من حيثياتها.
إذا تطلعنا إلى بورخيس فهو قد كتب عن التراث الشعبي الأرجنتيني المتمثل في الكومبادريتو أو المقاتلين بالسكاكين في ساحات أطراف المدن والقري هناك، يمكننا أن نلمح ذلك في مجموعته (تاريخ عالمي للعار)، فيما يمكننا أن نرى شبيه ذلك في حرافيش نجيب محفوظ عن الفتوات المقاتلين بالهراوات.
إذا مضينا بشكل أكبر في تفحص مشكلة الرواية المصرية، لقلت أنها على الرغم من تقدمها للعالمية عبر الكثير من الروائيين، إلا أنها مازالت تفتقد لعنصرين في غاية الأهمية، حيث فكرة العالمية يجب أن تبنى على الخيال الجامح من جانب، وعلى فكرة التسامح من جانب آخر، وهو مايبدو لي كقارئ يأتي من بعيد أنني لم ألحظهما على الإطلاق حتى الآن، لقد قدمنا جميعا للعالم صورة واضحة وغير غامضة عن الحياة المصرية في أدق تفاصيلها وعجائبيتها الحزينة والبغيضة، المفرحة والسعيدة، السوداء والضبابية والزرقاء، لكننا في ظني لم نتفق على رأي جمعي يتضمن مانريد تقديمه للعالم.
إن الديمقراطية في أبسط معانيها وتعريفاتها التي لاتنتهي، تعني الخيارالفردي والشخصي المطلق، لكنها لاتعني أبدا الخلاف الجمعي المطلق، وهو مايزعجني على الساحة الأدبية شأن الكثير مما تعج به حياتنا، فكل يريد أن يصنع مدرسته الخاصة القادمة من الفردية المطلقة، وبالتالي يصبح لدينا آلاف المدارس التي لاتعني واحدة منها لا بالخيال، ولا بالتسامح، وإنما بالواقعية والواقعية فقط، حتى أصبح الكثير من الأدباء ،المصريين ينظرون لأي خيال على أنه واقعية وواقعية مفرطة.. صباح الإفراط الحزين