September 4, 2007

ضمير الأشياء



دخلت إمرأة وحيدة صامتة من الباب الذي فتح فجأة إلى داخل الحافلة، كان أمرا عاديا للغاية في هذه الساعة الأخيرة من الليل الصامت، كان الطقس باردا للغاية، لم يستطع السائق المتصلب على عجلة القيادة الدافئة تحت كفيه أن يرى في البداية وجه المرأة، حتى ضوء حافلته الشاحب لم يكشف له عن شئ، كأنه تواطأ معها للركوب، حتى باب الحافلة الذي يتكاسل بشكل غريب عند فتحه، انفتح في سلاسة فائقة، كان في رأيه بابا بلا ضمير، ولكن حين ركبت ورأى وجهها أدرك أن هناك خطأ ما يحدث، لكن لم يعد بإمكانه التراجع، وجهها الفاتن بألوانه الليلية الكاشفة عن مهنتها التاريخية، وتقديمها لقيمة الركوب سريعا وانسحابها إلى قلب الحافلة في الداخل لتجلس في سكون على المقعد الخالي وسط المقاعد الخالية الأخرى، هذه المقاعد التي خلت من الناس، لايدري لماذا اختارت هذا المقعد، لتجلس بعيدا فلا يكاد يراها، كان يشعر بارتياب ما، لقد أخفى الضوء الشاحب وكذلك الباب الخال من الضمير وجهها، وجهها الحقيقي، كأنهما تحالفا ضده في تلك اللحظة، لم يسأل نفسه قبل أن تصعد إذا كان سيقابل وجهها الحقيقي أم غير الحقيقي، لكن هذا الوجه على وجه التحديد، سواء كان وجها حقيقا أم غير حقيقي سيبقى داخل الحافلة حتى محطته، دمدمت شفتاه الباردة بكلمات غير مفهومة، لكن لم يكن لديه حلول أخرى، انطلق صوت الحافلة كاسرا صمت الليل والبرد، وكانت الأضواء تختفي.
اختارت المرأة أن تجلس إلى أفضل المقاعد الممزقة التي كانت تكشف عن عوراتها الممزقة فارتفعت جلودها المهترئة الغامضة إلى الأعلى، وكانت حاشياتها مسكوبة في تكاسل حزين على الجوانب تحكي أسرار ركابها المنسيون، كأنها تحالفت مع كل الأشياء التي خلت من الضمير أيضا في تلك اللحظة، لم يكن هناك أفضل من هذا المقعد ومع ذلك فقد استقبلها المقعد في ترحاب لايتفق وحزنه المسفوح، فجلست وغاصت في داخله، شعرت بالدفء القادم منه فبدأت تغني في صوت واهن خفيض وهي تتطلع إلى اللاأشياء غير الواضحة التي تحوم في الظلام، بينما كانت الأضواء الخجولة تظهر وتغيب فجأة، كانت تغني لحنا قديما، وكان السائق يحاول أن يتعرف على ملامح ماتغنيه لكن لايكاد يصل إليه شئ من ذلك، لايدري لماذا صمت أيضا وأخذ يستمع إلى صوتها الجميلن او بقاياه التي تصل إليه.
لحظات وتوقفت الحافلة، في هذا الظلام وجد مجموعة أخرى من الركاب، كان متأكدا من أنهن مجموعة أخرى من النساء، رفع رأسه إليهن قليلا ليراهن على أنهن من نفس النوعية لكنه توقف مجددا، فليكن، قرر أن لايتطلع إلى وجوههن، مافائدة التطلع إلى الوجوه إذا كان موقفك لن يتغير؟، سيركب الجميع الحافلة، سيتحسسون في حنان تلك المقاعد الممزقة، وسيدخلون من هذا الباب الخال من الضمير.
توقف تماما، وحاول أن يفتح الباب الأوتوماتيكي لكنه لم ينفتح،( إيه هل استيقظ ضميرك فجأة؟)، لم يستجب مطلقا لكل مافعله، كأنه انتقل لعالم آخر فقد فيه كل حواسه، كأن الباب يدور في شوارع الصمت والسكون والظلام، كأن روحه ماتت، كأنه لم يعد موجودا، أو كأنه يدعي في إصرار أنه لم يعد موجودا، كأنه اكتفى فجأة بالمرأة التي دخلت، نهض وحاول أن يفتحه بيديه فلم ينفتح، كأنه قرر أن يظل مغلقا للأبد.
فتح الباب الذي بجانبه وخرج منه، واغلقه خلفه، كانت تلك حركة لاإرادية منه، دار حول الحافله، وتقدم نحو الباب الخال من الضمير من الخارج، من الشارع يحاول فتحه، فلم يفتح، كان الباب قد صمم أن لاينفتح، وقف أمامه مكتئبا، عاجزا عن التصرف، كان الباب قد فقد ضميره تماما، توجه نحو الباب الذي نزل منه، اكتشف أنه انغلق ويجب فتحه من الداخل، وأن الزجاج مغلق هو الآخر، كان قد أغلقه بسبب البرد، كما أن أكرة الباب لاتعمل من الخارج، كأنه أصبح في مدينه تائهه، رجل تائه في مدينة تائهه يخيم عليها الظلام والسكون والبرد، الرفاق اللعينة الثلاث، تحالفوا ضده وهاهو واقف في الخارج يتطلع إلى المرأة الوحيدة في الداخل،الجميلة الوجه، ذات العمل التاريخي، الجالسة على المقعد الذي رحب بها، كانت غارقة في اللاأشياء التي تتكاثر بالخارج، كأنها في عالم وهو في عالم آخر رغم المسافة الضئيلة الي تفصلهما، وفي ذات الوقت تخلق عالمها الخاص بها، لكنه شعر أنهما على حافة عالمين منفصلين، مخلوقات لاتنتمي لبعضها البعض تحوطها اشياء تتسم بالحنان أحيانا، وبدون ضمير أحيانا أخرى، ترحب احيان، وتصد أحيانا أخرى، هاهو قدره قد ساقه إلى أن يكون خارج عالمه الدائم، مقعده وعجلة القيادة الدافئة التي تحتضن كفيه الخشنتين، حتى زوجته لم تكن تستطع احتضان كفيه، فيما كانت عجلة القيادة تفعل ذلك، وبنعومة ليس لها مثيل.
خبط خبطات سريعة متلاحقة تمتلئ بإصرار غريب على الزجاج الغائم، هذا الزجاج الذي يبدو غارقا في بحر لانهائي من العدم، الزجاج هذه الحافة الشفافة، الحافة الرقيقة التي تفصلهما، حافة العالم والعالم الآخر، لايمكن أن تحدد من منهما العالم ومن منهما العالم الآخر، خرجت المرأة من عالمها الداخلي المغلق عليها، انتبهت له ونهضت وهي تبتسم، اقتربت من باب الركاب ومدت بيديها لينفتح الباب فجأة أمامها، كأنه استعاد ضميره المفقود، ليدخل الجميع ضاحكين، وخلفهم السائق الذي عاد لعالمه الذي كان قد فقده من دقائق، يبتسم لها وينسى تماما أفكاره القديمة عنها، ينسى دمدماته وأفكاره القبيحة التي تناوبته لحظة ركوبها، ينسى كل شئ ليتذكر مافعلته، يتذكر مدى عنف الأشياء، ومدى عنف أفكاره، يلعن نفسه في صمت، تبادله ابتسامة وتعود لمقعدها الذي رحب بها في البداية، وكان السائق يتعجب للباب الذي كان ضميره يتحرك منزلقا للأمام والخلف في ذات الوقت، لايأبه إلا لأشياء يعرفها هو شخصيا.