November 13, 2007

فوضى زرقاء - مقطع أول


1- فصل في الحقبة الأولى للأسئلة
كان أمام الراقصة العجوز وقت طويل حتى تظهر، وكان على القمر أن يموت أولا حتى يفسح لها الطريق، لكن الكسول اللعين كان أمامه بعض الوقت حتى يتم الإعلان عن رحيله غير المفاجئ.
بالنسبة إليه الوقت ليس له معنى، إذ يملك الوقت إحساسا مختلفا، كأن له علاقة قديمة بالشيوعية ربما، وربما له علاقة شاذة برؤساء جمهوريات دول العالم الثالث، إذ أنهم لايمرضون أو يكبرون في العمر، وربما من باب أفضل القول بأنه كائن كان من المفترض أن لايكون موجودا، ومن هنا لم يدع إله إغريقي قديم بأنه قد خلقه، يشعر أحيانا – لا..لا.. دائما - بأنه أسوأ حالا من الراقصة العجوز، كأن تكراراته أبدية لاتنتهي، يتحسس رأسه وهو يرفعها لأعلى، ليعود الكونشرتو الجنائزي لتساؤلاته المتكررة من جديد.
"ماذا كان يمكن لسارتر أن يفعل إذا أتى في هذه اللحظة، الآن، في هذه الحقبة التاريخية المائعة، هل كان بإمكانه إن كان يعيش بيننا أن يقدم لنا إجابات جاهزة خاصة لأسئلتنا حول تراثنا التاريخي النبيل وكيف حافظنا على نقاءه مثلا، هل كان سيشعر بالغثيان ويجفل من وجوهنا السوداء المتفحمة، وربما يتعجب في نفس الوقت من العيون الخضر والشعر الأشقر الذي بدأ يغزو بعض أحياء محددة من القاهرة فقط وليس الجمهورية، أم أنه كان سينهي إجابته وينتحر من فوره قائلا على طريقته " لايوجد ماأفعله، فهذا المجتمع بكل مافيه من رذائل خارج نطاق تخصصي الدقيق..!"، حينها، حينها فقط إذا تم ذلك سندرك أننا مجتمع يعج بالبؤساء والمرضى، , فإذا عرضناه لبعض ضغوطنا غير القانونية – التي نعرف جيدا كيف نمارسها – فنجبره على كتابة وصفة طبية لنا مثلا، ربما – أقول ربما- يدعي أنه لايملك أوراقا لكتابة تلك الروشتة لنا، وربما يدعي – وهو يتململ- أنه لايعرف طبيعة هذا الورق الذي سيكتب فيه العلاج، وربما أيضا تسوء به الحال فيتطلع في وجوهنا الطباشيرية الكرتونية– وهو أحد تعبيراته المفضلة - وينكر تماما وبشكل قاطع أنه لايعرف الكتابة، وفي أسوأ الأحوال سيرفع الغليون من على فمه المائي الرقيق ويقول بأنه لايعرف العربية، وربما لتكتمل الحلقة حين ينقح علينا كبرياؤنا – بسبب رفضه المتوالي - سندعي نحن بدورنا بأنه ليس لدينا مترجمين، ولننهي المسألة تماما سنسدد له طعنة أخيرة ونحوله إلى نكرة وننفي أننا طلبنا منه أي شئ، وأنه ليس لدينا الوقت لأطباء عقليين، وأنه من الأفضل أن يقدم نصائحه لبلده.. ثم نسحقه تماما قائلين هذا إذا كنت موجودا بالفعل ياسيد!! ولن ننطق إسمه، وحيث أننا مدربون جيدا على تسديد الإهانات سيكون من الأفضل أن نقول له (يا) فقط دون سيد فهو في نظرنا العبقري غير موجود!!".
المشكلة في ظني أنه حتى إذا كتب روشتة علاج، وسأفترض أنه ترك مهنة الفلسفة وتحول إلى طبيب للحظات وتجرأ وكتب تلك الوصفة الطبية فمن المؤكد أنها لن تكون ناجحة بكل المقاييس، فلا المسكنات ولا المغيبات ولا المسهلات ولا الممسكات ولا الحقن ولا المضادات الحيوية ولا غرف العناية المركزة ولا المطهرات بأنواعها ولا العمليات الجراحية ولا حتى إذا وصف مقاعد جميلة ذات أبعاد مختارة بعناية فائقة - بذكاؤه النادر المعهود - لنساء مثيرات لرجال البلد، لايمكن لكل ذلك أن يعكس هذه الوضعية، أو يخرجنا من هذا الكابوس، أو أن يعيد إلينا حيويتنا".
"سارتر بالذات الذي ألهمنا تلك الأسئلة الوجودية بحثا عن مزيد من الإيمان في هذا العالم، كان يمكن أن يقدم لنا الإجابة، الإجابة النهائية الشافية، كان يمكنه أن يقول لي مثلا – وحين أقول لي تحديدا فأنا لاأعني نفسي لأني للأسف لاأعرفها حق المعرفة، كما أنني لاأمارس أي شوفينية في الإشارة نحو نفسي حين أقول "لي" لكني أحاول فقط تقريب المسألة - يقول :
- يمكنك أن تخرج إلى الشارع وتتحدث إلى الخالق، تعترف بكل أخطائك مدعيا أنك لايمكن أن تعترف مرتين، مرة الآن ومرة بعد بعثك، وأنك تريد أن تحاكم الآن على كل مافعلته، ثم تستريح بعد ذلك، تستريح وتقبض روحك وينتهي الأمر، على الأقل تستريح من هذا الجحيم الأرضي، لم تعد الحياة تطاق في هذا المكان. المثير كما ترى أنك تعيش وتستمر في الحياة، كأن الأمر لايعنيك، ولايمكنك الانتحار، فهو ممنوع عليك، وأنت لاتملك الثروة التي تجعلك تخرج من هنا في هدوء، أو على الأقل تتمتع بتلك المقعدة البيضاء اللامعة إذا كتبتها لك في روشتتي، الغريب أنك لاتملك الآن أو حتى بعد ذلك تلك الشهية لهذه المقعده النسائية التي تسيل اللعاب..
يتململ وهو يتكلف الابتسام " نعم..نعم.. نحن مجتمع خارج نطاق تخصص سارتر، مجتمع لم يوجد من قبل، وأعتقد جازما أنه سينتهي على هذه الحالة..لكن المشكلة أن اللعين لايقدم جابات على الإطلاق!!".
" هيا ياصديقي الفرنسي أجبني، ماذا كنت ستفعل.. هاه ماذا؟!.. أنا.. أنا شخصيا لاأملك سوى الاشمئزاز ومع ذلك أنا ضالع حتى نخاع عظامي الذي ضربه السوس في المسألة، ضالع في الإدعاء بأني لاأرى أو لاأجيد الرؤية، لاأراهم وهم يفعلون مايريدون بنا، لاأراهم وهم يكتبون في الصحف مايريدون، لاأراهم وهم يخطون كتب التاريخ على هواهم، لاأراهم وهم يسمموننا، لاأراهم وهم يبيعون أجسادنا، لاأراهم وهم يرفضون الاستماع إلينا، لاأراهم وهم يزيفون رأينا في تلك الصناديق التي تدرك حين تطلع إليها كم هي كاذبة ورثة وبالية ولا تستحق سوى الاحتقار..لاأراهم..!!.. إذا كنت لاأراهم.. وهم لايرونني، وربما أكون أدنى من أن يرونني، وهو شئ يكاد يكون مؤكدا.. فهل نحن بالفعل موجودون أم أن هذا مجرد كابوس.. هل العالم حقا موجود.. وماهذه الصور التي أراها عن عالم آخر يعيش سعيدا.. هل الجنة هناك.. إذا كانت الجنة هناك فلأعترف وأموت الآن، ولتنتقل روحي إلى هناك.. هل مكتوب علي أن أتعب حتى أصل لهذه الجنة أيضا، ألايكفيني ماأنا فيه على هذه الأرض ..".
القمر يختفي فجأة، ظلال فضية غامقة تلوح من بعيد، تبدأ في التحول إلى هذا اللون البني الذي لايستطيع أن يراه جيدا، الراقصة العجوز الحمراء مازال أمامها بعض الوقت لتحتل مكانها المعتاد على مسرح الأرض، تقوم بحركات الصعود في السماء بخط مستقيم يتسم بالشهوة الجامحة وفي حركة بالية واحدة لاتتغير، لاتتورع عن ممارسة تلك الحركة يوميا منذ مليارات السنين، حتى أصبحت مملة للغاية، ألم تشعر هي أيضا بالملل.. شئ غريب يبعث على الاشمئزاز.. لكنها وهذا هو الأهم تترك لنا بعض الظلال، بعض الظلال التي لاتؤثر".
" ظلال .. نعم .. الظلال .. إذا قلت أنني مجرد ظل يتحرك فلا يخدش حياء ولايضايق أحدا، ظل ليس له تأثير، كلنا ظلال ليس لها تأثير، وهل يكتب أحد ، أي أحد تاريخ الظلال، ..هاها.. ليس للظلال تاريخ، فهي لاتستطيع أن تضاجع امرأة.. وليس لها قضيب، ولم يكن لها يوما تلك المقعدة المثيرة فلاتحتك بالأرضية إذا طلبوها لتمارس الجنس، ولا تشعر بالوردة وهي تسقط على الأرض في حركات دائرية لايمكن تدريسها في أكاديميات الفنون، ولم تسع يوما لتبلل شفاهها بقبلات في الأركان المظلمة، ولاترتدي فستانا بسحاب، ولا تتسلسل كخنفساء عملاقة لتأكل لحوم الموتى، ولا تعرف معنى الرضاعة، ولم ترتاد ماخور مع بعض العانسات، فكيف يكون لها تاريخ!!"
عليه أن يتمنى حدوث فعل من ثلاثة، إما أن يموت الآن وهو جالس على المقعد، أو تبدأ أحداث يوم القيامة ليعترف بجرائمة الخائبة وينتهي الأمر، أو يرحل للضفة الأخرى للكابوس، حيث الحلم، أو تلك الأرض التي يمكن أن يموت عليها مرتاحا، وربما يحتاج الأمر لبعض التوابل، سيتدبر أمرها إذا حدث، لكن على الأقل سيكون الأمر الأخير هو اختياره إذا حدث، فهو ليس مسئولا عن تلك الخيارات الإجبارية التي وقع عليها، اختياره الحقيقي مرهون بلحظة ارتحاله للضفة الأخرى، حيث يمكنه أن يمارس حريته، حريته الحقيقية للحظات قبل أن ينتهي الكابوس والحلم معا، يريد نهاية تليق بالدخول في الحلم، نهاية كالحلم ذاته تأتي وتستمر.
"أنقطع عن العالم، لكني أعي كل شئ.. هكذا يجب أن تكون النهاية" .
ربما كان من المهم الإشارة أيضا إلى أن تحديد الطريقة التي يمكن أن يصل فيها إلى ضفاف الكابوس النهائية كانت مجرد فكرة، ثمة أفكار في العالم ليس لها أدوات محددة للتحقيق، حتى العلامات التي يمكن أن يسترشد بها إلى مجرد بداية الطريق الذي سيسلكه لإنهاء هذا الكابوس لم تكن موجودة أو متاحة بشكل عملي، لكنه في قاع روحه كان يشعر بأنها موجودة بشكل أو بآخر كلغز، لغز عليه أن يقتلع عينيه فيصبح أعمى فلا يستعصي عليه حله قبل فوات الأوان، وقبل أن يطبق هذا الكابوس على روحه فينتزعها، وحين انتزاعها – إذا حدث ذلك – سيشعر بأنه شرب أكبر مقلب في حياته، أكبر مقلب ممكن في الوجود، ببساطة لم يكن لوجوده الصامت والمتكرر معنى سوى أنه سليل أصيل لأكبر فصيلة حمير فاشلة في العالم".
يتطلع إلى التقويم القابع على الحائط الفاشل أيضا الذي لايصلح إلا لعملية تكرارية ليس فيها أي جديد، فهو اليوم تقويم وغدا نفس التقويم وكذلك بعد غد وحتى النهاية، سلسلة متكررة من الإعلان عن تاريخ الإحباط البشري، لاتدركه بقية الكائنات، فهي غير معنية به بشكل أو بآخر، متى أشار هذا التقويم لفشل أكبر، هناك الكثير الحقيقة، لكن حزنه الحقيقي كان في أبريل 1980 حين مات سارتر، وربما في أكتوبر في العام الذي يليه حين مات الرئيس الراحل، كانا متماثلان في تدخين الغليون، الأول أعاد للفلسفة قيمتها، والثاني أعاد للعبث قيمته، يتخيل أحيانا ما الذي سيفعله الرئيس الراحل إذا قابل سارتر في الجحيم، مؤكد أن سارتر بعد جولة طويله في الجحيم سيجده في انتظاره ، سيسأل سارتر الرئيس الراحل وهو يأخذ نفسا عميقا بلا مبرر من غليونه الذي يموت كل لحظة :
- مالذي أتي بك إلى جهنم!
- هاها.. جئت كي أطمئن عليك ألا تعلم أني رب العائلة!!
سيود سارتر لو يطبق على رقبته، لكنه لن يفعل.. سيضحك في برود كعادته إلى مالانهاية ثم يتقيأ ويموت ليفاجأ بالرئيس الراحل مرة أخرى، الذي سيكون عذابه في الآخرة، كأني أراهما الآن
"!