August 16, 2007

تماثيل لحمير صغيرة فاشلة




ثمة موهبة ما مخزونة كانت لدى أبي لم تظهر إلا بعد أن تغلبت عليه مجموعة من عوامل التعرية الزمانية والاجتماعية، فركن في المنزل لايخرج منه إلا للشرفة وقد لف تحت إبطه جريدته وشيئا ما آخر لايظهر منها، يتطلع من الشرفة قليلا إلى الشارع ثم يجلس على مقعده فيها ولايخرج إلا حين تغيب الشمس، يخرج وقد لف هذا الشئ المجهول في الجريدة وسرعان مايضعه في خزانته الخاصة بحجرة نومه، ثم يغلقها بالضبة والمفتاح ، ويصر على أن لايفتح أحد ما غرفته في يوم غيابه عن المنزل حين يذهب للحصول على أموال المعاش.
يظل يعمل في الشرفة منذ صحوه حتي يعود منها منهكا، هكذا كل ليلة، حتى مات ذات صباح بارد، كنا صغارا لانأبه كثيرا لما يفعل، لكن بعد أن مات أصر أخي الأكبر على فتح خزانته ومعرفة سر هذه اللفافات التي كان يدسها هناك، لكن أمي رفضت ذلك في إصرار وغضب، وفي تلك الليلة بعد أن نامت أمي اختلسنا المفتاح أخي الأكبر وأنا ، وكان التوتر قد قضى على بقية أنفاسنا فكادت لاتبين، وفي حجرة أبي أوقدنا مصباحا خافتا كنا نتحرك على ضوءه، وبدأ أخي في محاولة فتح باب الخزانة عدة مرات وكان الباب يصر في كل مرة على الإنغلاق، تطلعت إلى صورة أبي على الحائط، كانت ترتسم على وجهه ملامح تلك الابتسامات الحائرة، هذه الابتسامات الغريبة التي لم أستطع فك طلاسمها على الإطلاق، وحين سألت أخي عنها ضرب كفا بكف، وأدركت أنه هو الآخر لايعلم، حتى أمي لم تعلم سببا لتلك الابتسامات الحائرة التي لازمته في سنواته الأخيرة حتى خروجه من العالم الأرضي منذ ترك الوظيفة وحتى مات، سألتها
- ألم تتحول أبدا تلك الابتسامات إلى ضحكات.. لم أره أبدا يضحك ياأمي..
قالت:
- ضحك مرة واحدة في صباح رحيله، قال لي بأنه لايجد فائدة من استيقاظه في الصباح، كأنه كان يعلم بأنه لن يستيقظ بعد ذلك أبدا..
كنت أعلم بأن هناك كثير من الأسئلة التي لم أتمكن أنا أو أخي من الإجابة عليها، لكننا كنا نأمل في أن يكشف لنا مابداخل الخزانة عن إجابات على أسئلتنا، كنا نعتقد جازمين بأن سبب ابتساماته الحائرة يكمن في تلك اللفافات المحفوظة في خزانته، أخيرا نجح أخي في فتح باب الخزانة الثقيل، لملمنا اللفافات التي كانت تملؤها، ووضعناها على الطاولة الخشبية التي استقبلتها في ترحاب، وبدأنا في فكها وقلوبنا تنبض في عنف، وحين فتحناها أخيرا لم يكن بداخلها سوى نماذج مختلفة من الخشب لحمير صغيرة فاشلة، إذن كان يحتفظ في خزانته بكل الحمير الفاشلة التي حاول صنعها ولم يستطع، في الصباح أدركت أمي مافعلناه، فأخرجت كل الحمير الفاشلة وأوقدت فيها النار، وكان رمادها يسقط هناك على أرض الشرفة، في ذات الوقت الذي كانت تأتينا فيه صرخات من الشارع لأناس تحترق فجأة
.

8 comments:

كراكيب نـهـى مـحمود said...

تنبهت كل حواسي من الصورة والعنوان
ليس فقط لاني احب حماري الأزرق ولا لولعي ببنيامين الحمار الطيب في رواية مزرعه الحيوان لجورج اوريل
ولا لحكايا الحمير التي ذكرت لي من قبل
ولكن لان حمير صغيرة فاشله تطل بدهشتها وغبائها او طيبتها
البوست جميل اوي
وانا فرحانه بيه رغما عن الناس التي احترقت هناك فجأة

Anonymous said...

مساء الخير :
هي جميلة جدا لكن لها عمق ،اعتقد انك تركت لكل قارئ الحرية في فهم معني " الحيوان الصغير الذي كان يصنعه الاب "
رؤيتي له "وفقا لرؤيتي الصغيرة" انه اعتمدعلى فكرة ان الانسان في الاصل حيوان به صفات كثيرة واختياره لهذا الحيوان بالذات لانه ابسط انواع الحيوانات و اطيبها ويسهل تطويعها ، اعتقد انه كان بيحاول يصنع كائنات يريدها في عالم جديد تكون بصفات هذا الكائن و لكنه اعتبر ان الفشل و هذا ما حدث هو حليفة فلم يستوعب الاخرين فكره
اما عن الخشب فلان الخشب يسهل حرقه فالكائن البسيط الذي يصنعه يجد انه قد يدمره اي شىء سريعا
مش عارفة هو كدة صح ولا لا بس لو كان كدة يبقي برافو عليك
انت هايل
و لو مش كدة عموما الفكرة هايلة بس غششني رؤيتك
من غير ماحد ياخد باله
لكن هي طبعا عجباني
تحياتي اليك و خالص تقديري و حبي
همسه حب
ريهام عنتر

إيمان said...

القصة توحى لى
أن لكل منا عالمه أو صندوقه الذى يحمل إحفاقاته والذى قد يحتفظ به بعيدا عن الآخرين

fawest said...

القصة جميلة جدا
لن امارس عليك سلطة الناقد على القاص
بس المعنى اللى تقصدة بحرق الناس فى الشوارع و إن الاب يمارس سحر اسود او شئ من هذا القبيل و دة المنى مع انى عشت معاك حالة جمياة فى كشف سر الاب
ومع كشف الحمير الفاشلة كنت اتمنى ان تنتهى القصة


شكرا لامتاعى

. said...

نعم امتعتني بالقصة
ومازلت اريد ان اعرف هذا الرجل الذي اخبى ابتساماته الحائره وراء سره الذي الى الان لم استطع فهمه
اشكرك فعلا على امتاعي

Anonymous said...

مفتقدة لكتاباتك
واكيد طبعا مفتقاداك يا بخت شرم

حاول ان تستمر في الكتابة حتي و لو كنت بعيد
همسه

نورسين said...

ـ ادخل اي كلية ،ان شاالله تكون كلية الحمير !!بس المهم تكون احسن حمار فيهم ـ سمعت تلك النصيحة من جدي أيام الثانوية العامة وهبل التحسين وقهر التنسيق محاولا التخفيف والتلطيف،،علمت فيما بعد انه محق وانني حتى لو اضطررت ان اكون حمارا فلا بد لي ان اكون حمارا مميزا.
سيدي :تماثيل لحمير صغيرة فاشلة سطور قليلة تتميز في نظري بحرفية عميقة في فن الكتابة القصيرة ،مضمون واحداث وابطال ،كل ذلك في طي بداية ووسط ونهاية - شعرت اني اراها لآ اقرأها-يظهر احساس كل من في القصة بقوة رغم الكلمات القليلة،،،
ولكن سيدي :كيف تفشل الحمير لتستحق ذلك اللقب ؟وكم مرة يمكن العفو عنها؟وما الفرق بين حمير صغيرة أو كبيرة فاشلة؟عفوا سيدي إلا ان احساس ما راودني ذات يوم بأن اذناي في استطالة واني تحولت الى حمار ،لكني كنت حينها في حاله من التمردعلى ذاتي ،فما ذنب الحمار،تذكرت ذلك الان .عذرا للإطالة وصباحك لذيذ يا باشا.

_ زين_ said...

الأخوة والأخوات الأعزاء
اعتذار مبدئي عن الانقطاع بسبب وبدون سبب
تحياتي لكم جميعا

العزيزة تهى

كويس انه عجبك رغم الحريقة،وانشاء الله نكتب حاجه كبير هقوي عن كل حمير "الأدب"، تحياتي

العزيزة همسة
يمكنك أن تستحرجين ماتشائين من افكار وفقا لرؤيتك.. رؤيتك رومانسية للغاية فلتكن الرومانيبة
تحباتي

العزيزه أمونه
لكل منا إخفاقاته وتهيؤاتهالتي يحتفظ بها بعيدا، بعيدا، اقرئي عالم الفراشات السرية في البوست الجديد
تحياتي

العويز فاوست
مارس ياسيدي سلطة النقد، وماله، مش عيب، وممكن يكون عندك حق، لكني أحب أحيانا النهايات المغلقة، ووفقا لما قلته، كان من المفروض أن أنهيها عند كشف التماثيل، لكني أردت إضافة شئ جديد مختلف، لعالم يجب أن يحترق ويعاد بناؤه من جديد.
تحياتي لرؤيتك وجمال أفكارك.

العزيزة سدره
أشكرك عل تعليقك اللطيف واتمنى أن أكون دائما عند حسن الظن، لكن لاتنسي أن أغلب ابتساماتنا حائرة
تحياتي

الأخت فريده مروان
شكرا لتعليقك اللذيذ، وياسيدتي ياريتنا زي الحمير
تحياتي